ظل صلاح الدين الأيوبي يتحين الفرصة لقيادة الهجوم الكبير علي الصليبيين. و كان عام 1187 م يبشر بانتصار كبير للمسلمين. فقد بدأ بانتصار فرقة من جيش المسلمين علي الصليبيين في معركة الأقحوانة بالقرب من طبرية.
و علي الرغم أن بعض قواد صلاح الدين قد أشاروا عليه بتجنب مواجهات كبيرة و حاسمة مع الصليبيين و اللجوء للمناوشات و المنازعات المتفرقة لتشتيت جيش العدو علي مساحات شاسعة و جبهة طويلة، إلا أن صلاح الدين رأي أنه لابد من القيام بمواجهة حاسمة مع الصليبيين، و قال ” الرأي عندي أن نلقي بجمع المسلمين جمع الكفار، فإن الأمور لا تجري بحكم الإنسان، و لا نعلم قدر الباقي من أعمارنا، و لا ينبغي أن نفرٌق هذا الجمع إلا بعد الجد بالجهاد”.
كان صلاح الدين يعلم أن المحيط العربي الكبير من الأرض و البشر يجعله قادر علي تلقي الهزائم دون أن يتعرض للفناء، بينما الوجود الصليبي المحاصر أكثر عرضه للفناء إذا تعرض للهزيمة.
و في أول يوليو من عام 1187 م تجمع لدي صلاح الدين جيشا كبيراً من المصريين و العراقيين و الشوام و الأكراد، و اجتاز بهم نهر الأردن و عسكر بالقرب من قلعة طبرية الصليبية، بينما كان الجيش الصليبي يعسكر عند بلدة صفورية الغنية بالمياه.
كان صلاح الدين يأمل أن يستدرج الصليبيين لملاقاته عند طبرية. فقام بعدة أعمال استفزازية لاستثارة الملك جي دي لويزينيان ملك الصليبيين و قائد الجيوش، فهاجم حصن طبرية الذي كان فيه حامية صليبية صغيرة، و هدم أحد أبراجه، و أصبح الحصن علي وشك السقوط في يده.
سقط الملك جي قليل الخبرة في الفخ، و قرر التوجه إلي طبرية لملاقاة صلاح الدين و صده عن طبرية، و رفض نصائح القائد ريموند أمير طبرية الذي أشار عليه بعدم تعريض الجيش الصليبي للمسير في هذا الحر الشديد في شهر يوليو. و لكن جي أطلق صيحته الشهيرة ” أريدكم أن تمتطوا جيادكم تاركين هذا الحصن باتجاه طبرية”.
حاول ريموند أن يثنيه عن هذا التصرف الطائش قائلاً ” أري أن لا نغادر هذا المكان الغني بالماء و الغذاء للسير مع هذه الآلاف المؤلفة من الرجال نحو الموت جوعاً و عطشاً و حراً. إن جنودنا لا يستطيعون البقاء نصف النهار بدون ماء. صدقوني و ابقوا هنا في هذا الموقع المتوسط الآمن و الرغد”.
و لكن كلماته ذهبت أدراج الرياح وسط جو هستيري ملئ بمزايدات الرجولة و الكفاح طغت علي الحكمة و صوت العقل.
و في الثالث من يوليو بدأ الجيش الصليبي مسيرته نحو طبرية في جو شديد الحر. و كان الملك جي مدفوعاً بكبريائه الغبي، يحث جيشه علي المضي قدماً للوصول إلي طبرية بسرعة و لم يترك له فرصة الراحة و التزود بالماء من الواحات القريبة. حتي أن صلاح الدين قال بعد ذلك أنه لم يشك في أن الشيطان هو الذي أضل الملك جي و جعله يسلك هذا المسلك المنافي للحكمة و العقل. كما سارع صلاح الدين بارسال قوات من جيشه تأتي من خلف الجيش الصليبي لتقطع عليه فرصة التراجع و محاولة الوصول لبرك المياه التي تركوها خلفهم.
و عندما أصبح الجيش الصليبي علي مقربة من حطين، كانت قوات صلاح الدين تعسكر في المناطق الغنية بالمياه، بينما عسكر الجيش الصليبي في منطقة مقفرة خالية من الماء. و لقد أدرك الكونت ريموند كارثية الموقف الصليبي حتي من قبل أن تبدأ المعركة حتي أنه قال ” عجباً، سيدي الرب، لقد انتهت المعركة ، لقد خُدعنا حتي الموت، و المملكة انتهت”.
و في المساء ضيق المسلمون حصارهم للمعسكر الصليبي، حتي قيل بعد ذلك أنه لو انفلتت قطة من المعسكر، لأمسك بها المسلمون”. كما أشعل المسلمون النار في الحشائش فانصب الدخان في المعسكر الصليبي.
و في اليوم التالي انتظر صلاح الدين حتي ارتفعت الشمس في السماء، و بدأت المعركة، و مالبثت أن تحولت إلي مذبحة للصليبيين الذين سلب العطش عقولهم و خارت قواهم، فقد اندفعوا إلي الأمام محاولين اختراق حائط المسلمين الصلب للوصول إلي بحيرة طبرية. و لكن محاولتهم باءت بالفشل و خلقت ثغرة بين المشاة المندفعين للأمام و الفرسان من خلفهم استغلها المسلمون و طوقوا فرسان الصليب و اطبقوا عليهم من كل الجوانب. و ما كادت شمس هذا اليوم تغيب حتي كان معظم الجيش الصليبي قد فني و أُخذ قواده من الاسبتارية و فرسان الهيكل أسري، و استطاع الكونت ريموند الهرب من المعركة، بينما سقط الملك جي و قائده السفاح رينالد دي شاتيون في الأسر.
و لقد أمر صلاح الدين بضرب عنق كل فرسان الهيكل ( المعبد) و الاسبتارية لأنهم كانوا يمثلون قلب الجيش الصليبي و العمود الفقري للمملكة الصليبية. أما الأسري فقد ذهبوا بهم إلي دمشق و باعوهم في سوق العبيد. و لقد عفي صلاح الدين عن الملك جي دي لويزينيان بعد أن أقسم الأخير علي عدم العودة لقتال المسلمين. و لكن جي حنث بقسمه و عاد و انضم للحملة الصليبية الثالثة بقيادة ريتشارد قلب الأسد.